هاهو دارنس ذلك الخمسيني الرائع يعلن عن عودته القوية إلى حيثما كان يجب أن يكون، يعود ليملأ تلك المدينة زهاء وبريقاً بأصفره الأنيق، ويغازل أزقتها الضيقة قبل شوارعها وميادينها، ويطلق العنان لزغاريد عجائز (الجبيلة)، ويداعب وقار شيوخها قبل حماسة شبابها،ويدغدغ براءة أطفالها قبل رزانة رجالها، يعود حاملاً معه معانٍ كثر أبطلت واقعية "عشعشت" في النفوس ويأساً تغلغل في الأعماق، معانٍ رسخت ثقة في النفس، ورقياً في التعامل، وسماحة في الطباع.
هاهو الخمسيني يدحض بعودته حجة أن تدار المؤسسة الرياضية بأشخاص متنفذين أو أثرياء مدججين أو متسلطين متصلفين، فهو يعود - بعد توفيق الله - بإدارة من أبناء له جلهم، إن لم يكونوا جميعهم، من الموظفين البسطاء، وإن لم يكن بعضهم موظفاً فهو من العصاميين العاملين لحسابهم في وضح النهار وحتى "القايلة". آثروا مصلحته على مصالحهم، وحركهم حبٌ نمى في أحشائهم وسرى في أوعيتهم مذ كانوا صغارا، فمنهم من كان قد ركل الكرة مدافعاً عن ألوانه يوماً، ومنهم من هتف باسمه في حل وترحال على المدرجات، أو جعل للحديث بشاشة وهو يسترسل في ذكر أمجاده على "مصاطب" درنة الصيفية "ومرابيعها" الشتوية، ومنهم من كان يمد يد العون رغم الخصاصة حيناً والعوز أحياناً، ولكن كان لجميعهم رؤية واحدة وغاية مثلها، ألا وهي عودة خمسينيهم ونهوضه، ولكنها عودة ليست كأي عودة، عودة شرف وعزة وعصامية، إنه الصبر والجلد والوفاء.
يعود الخمسيني بحبات عرق لاعبيه القارين منهم والوافدين، وجهاز فني متآخ متناغم، ليحدث مفارقة قلما تتكرر، وهي أن يعشقه الجميع دون الخوض في لغة المطالبات والحسابات والدفع المقدم ولي الذراع. لقد اتفق على حبه والسعي لعودته ذلك القادم من قلب السمراء (أفريقيا)، ومن الخضراء (تونس)، ومن قدم من نواحي (ليبيا) الأربع، ومن ولد وترعرع في حاضنته (درنة).... إنه سحر البساطة وإملاءات الإخلاص ودوافع الإتقان في العمل.
ينهض الخمسيني الأصفر بكوكبة من المشجعين الواعين بمكانته، والمرتحلين وراءه غرباً وشرقاً، والمرافقين له جوا وبرا وعاقدين العزم أن يرافقوه حتى بحرا أو حبواً -إن لزم الأمر- ممتشقين أعلامهم الصفراء، وتراقيهم الفتية القوية، و"وليدهم" النحيف بدفه الجبلاوي البرئ الذي لا يعرف للفتور سبيلا، إنه الانتماء.
يعود دارنس ليجعل ممن أنهكهم المرض والسنون، وممن وهن العظم منهم يهبون هرعين إلى مقره، مباركين وغارقين في دموعهم ومنتشين بذكريات سنين خلت طالما عانقوا فيها المجد والانتصارات في حضرته، إنه الحنين إلى ماضٍ جميل، وفرح بحاضر سعيد، واستشراف لمستقبل وعيد.
يعود الخمسيني ليفضح أخلاقيات مدرب خصم لم يدخر وسعاً في إثارة الآف المتفرجين ومدينة بأكملها بتصرفات أقل ما يقال عنها وحيالها أنها غير مسؤولة لكي لا ننعتها بنعتها الصحيح. إنه التعصب المقيت والتفكير بعقلية العصور ما قبل الوسطى.
يستمر الخمسيني في طريق عودته في ظل لجنة أولمبية عملت بمهنية وإنصاف، وقدرت الأشياء حق قدرها، مكنتها من أن تدرك أن لدارنس تاريخ وأن مكانه هو دوري الأضواء الذي خبت أضواؤه فور غيابه عنه، إنها المهنية والاحترافية.
لقد حملت عودة الأنيق المرتقبة منطقاً ودماءً ونظرةً جديدة في علاقة المؤسسات الرياضية بعضها ببعض، فقد قطعت دأب كل من حاول أن يدق إسفين الفتنة بينه وبين جيرانه وأقرانه، لقد بارك الجميع طواعية عودة الأنيق بأسلوب راقٍ، انهالت عباراته من (أفريقي) عريق (وبرانسٍ) وطيد وقدمت وفوده مهنئة ومباركة من (صقور) تليد (وأخضر) عتيد (وأهليٍ) عميد (واتحادٍ) شديد وغيرهم، في بادرة قدرتها وأكبرتها جماهير الأنيق العنيد، إنه التنافس الشريف.
يعود دارنس الأنيق ليصطحب درنته التي أحبته واحتضنته صغيراً، لتحتل مكانها الطبيعي على خارطة الوطن الرياضية، راسماً البهجة والفرحة والتفاؤل على محياها بعد ثلاثة عشر عاماً عجافاً، نمت فيها الأعشاب البرية الضارة والمتطفلة على أرضيات الملاعب والأندية الرياضية التي طالما شهدت صولات وجولات لأبطال من أبنائها الصفر، إنها الأصالة والتاريخ.
كل هذه المعاني حملها الأنيق معه في طريق عودته ليظهرها، على المشهد الرياضي والاجتماعي والثقافي كله، ويسطر بها صفحة جديدة ملؤها التفاؤل والتطلع إلى غدٍ أفضل صحبة أبنائه المخلصين...البسطاء...الشرفاء.
لا يوجد حالياً أي تعليق